بقلم جيسّي نصّار – ٢٧ حزيران ٢٠١٢
أكثر من عام مضى على انفجار عبوة الصمت في شمال افريقيا بعد طول انتظار. منذ أن انفجرت و لبنان صامت نائم، يشاهد أهله من بعيد ما وصفه البعض بالفوضى. من كان ليكترث أساسا بلبنان و شخصياته الكرتونيّة في وقت تقوم فيه الشعوب العربية في الجوار بإعادة خلط حبرها لكتابة تاريخ تهديه لشبابها و للأجيال القادمة. أو هذا ما نأمله على الأقلّ، حيث أن الصورة لا تزال تارة سوداء و طورا بيضاء، مائلة في أغلب الأحيان الى الرّمادي.
بعد مرور أربعة سنوات على ما عرّفناه ب”حرب الشوارع” المهينة، عاد الفيلم الهوليودي الى صالات السينما اللبنانية. إن اللّبناني مميّز فعلا: فلا يجد بعد طول الصمت طريقة أخرى للفت الأنظار سوى عبر “الأكشن” الهوليودي. لكن المشكلة هي أنّ الزّعماء لم يفهموا حتّى الآن، و بعد سنوات على تعطيل محرّك بوسطة عين الرمّانة، أنّ جيمز بوند لم يتقمّص أيّاًّ من تلك الشخصيات الكرتونية . منذ اندلاع ثورة الغضب في الجوار- أي ما يعرف اليوم بالرّبيع العربي- أمست المسرحية اللبنانية مملّة. فبينما كان الشعب التونسي يؤسس لنظام جديد و يلهم جاره الليبي، والدّماء تسيل في الجزائر و اليمن والبحرين و ليبيا وصولا الى سوريا، كانت ولا تزال الشخصيات الكرتونية تتجادل حول أزمة الكهرباء، و هو جدالٌ لم يؤدِ سوى إلى إطفاء آخر سلك كهربائي تبقّى في عقل مواطن لبناني يرغب بالعيش في لبنان غير هوليودي. بينما كان الشّعب المصري يقاوم عنف العسكر، كان اللبناني يعيد مرارا و تكرارا مشاهدة الحوار السّياسي المباشرعلى شاشة قناة الجديد (New TV) على “يوتيوب”. طبعا لبنان مميّز لأنّ مسؤوليه السّياسيين لا يكتفون بمصطلحات “أبناء الشّارع” لا بل يحوّلون استديو برنامج حوار إلى حلبة مصارعة. إذا لم يكن السلاح متوفراً فعدةُ من معدات أخرى .ها هم يا أيها المشاهدين الكرام مسؤولو الدّولة الديمقراطية التي تتغنى بأنها سبقت بأشواط تلك التي لم تعرف الدّيمقراطية بعد.
الكثير من المشاهدين الذين غابوا عن لبنان طوال فترة قطع البثّ على شاشات صالاته السينمائية ظنوا أنّه قطع بأشواط ما قد وصلت اليه بلدان الربيع العربي. منذ ولادته، لبنان “دولة ديمقراطية” مبنية على التعدّدية اعتبرت أكثر تقدّما من معظم الدّول العربية. نعم، لبنان عرف ثورات كثيرة و كان قد سبق بأشواط جميع البلدان العربية الأخرى. هذا ما قد يخاله البعض.
لكن فلنضع التشائم جانبا. ألم يكن لبنان طوال هذه السنوات محطا للأنظار و مثالا للحرية والديمقراطية و الانفتاح؟ الثورة لا تندلع لتنطفئ بعد ساعات، و لا تأتي أؤكلها دون تضحية. مات الحريري و رفاقه و سمير قصير و جورج حاوي قبل أن يوضّب الجيش السوري أمتعته بحقد للعودة الى حديقة الأسد. فكانت بداية “الربيع اللبناني” في يوم صيفي حار باتت فيه الحواجز الأمنية خالية فانية. سنوات طويلة عنيفة أليمة مرّت و الحواجز محتلّة، سيطر عليها جيش “شقيق”. اتّجهت الدبابات العنيفة الى المصنع، لتترك أرضا” بسلام، في وقت ظنّ فيه البعض أنّ السلام قد حلّ بعد طول انتظار. يوم خال الكثير أنه قد لا يأتي، بينما انتظره البعض من أمثال قصير و حاوي. لقد أتى هذا اليوم ولم يعشه من حلم به. أخليت الحواجز الأمنية منذ سبع سنوات و لكن روحها بقيت و ها هو سمّها ينتشر من جديد على الأراضي اللبنانية.
ما يحصل اليوم في لبنان مرجعه الصيف الحار الذي عاشه الأسد. مخالبه الانسانية اهترأت فيلجأ اليوم إلى المخالب الحيوانية ليمزّق نسيج الشعب السّوري الباسل. إن ضعفت هذه المخالب أمر بدافع تقويتها باقتلاع أظافر الأولاد الأبرياء و كأنّها أكثرصلابة. هذا الأسد المريض لا يكتفي و لا يشبع لأنّ الطعام الذي أقام بتغذيته كل هذه السنوات في البلد الشقيق المجاور لم يعد من السهل الوصول اليه. لذلك، تعود اليوم الغريزة الطائفية الى أحياء طرابلس و تتوسّع حدود الحديقة الحيوانية الى بلدة عرسال.
ألم يكن آب 2005 ربيعا لبنانيا بدأ بعد انفجار 14 شباط ؟ ألم يكن حلم ترميم الفسيفساء الطائفية في لبنان على وشك أن يصبح حقيقة عندما غطت ألوان العلم اللبناني الثلاثية رؤوس أبناء وطن واحد ذي اختلافات عدة؟ كان الحلم على وشك أن يصبح واقعا”. “الإحباط و القنوط، تلك هي العادات التي لم يعد لها مكان بعد 14 آذار” هكذا قال وقتها سمير قصير. الإحباط و القنوط رجعا لا بل ظهرا من جديد في أزقة الشوارع اللبنانية.
هذه الفسيفساء الطوائفيّة التي شبّهت بطائر الفينيق قد ألهمت كل من حلم يوما بربيع عربي. و ها هي قطعها تنفسخ من جديد. شخصياتها تدعو الى حوار “دون شروط” “ضمن شروط”. بذلك، يبدو و كأن معايير الحوار تغيّرت في بلد مبني على أسس ديمقراطية، بل هي ديمقراطية يحق فيها لمجموعات مسلّحة تحويل الشوارع إلى ملعب “جيمز بوندي” وقتما شاءت، لتنطفىء النيران بعد بضع ساعات من بدأ “الأكشن” و كأنّ شيئا لم يكن. فأين المنطق في كلّ ذلك؟ متى سيتحوّل الحوار إلى مشروع بناء وطن قد أجّل منذ اتفاق الطّائف؟ ليس بدافعنا الإجابة و لا لوم طرف واحد لأن الأطراف المعنيّة من مسؤولين الى مواطنين تتعدّى مجرّد فئة. كما أن لعبة الأسد تتعدّى اليوم حدود حديقته. إنه لم يعد يتمكّن من السّيطرة عليها لأن الخوف و التّرعيب، وهما الوسيلتان اللتان لطالما أعطتا القوة لنظامه، انقلبتا عليه. فطلب النجدة من من لبنان متمزّق، و الصديق عند الضيق.
ها هو ذا الصديق يوضع اليوم في ضيق عميق يمزّق الشوارع الطرابلسية و الفئات اللبنانية على أسس طائفية بحتة. بعد أن انفجرت عبوة الصمت الناسفة في سوريا لجأ النظام الوحشي إلى العنف و الاجرام مستخدما السيل الأحمر لإخماد نيرانه و محرّكا النار الطائفية في الجوار كي لا ينعزل في غاب بعيد. بدلا من تحويل هذا الحلم إلى واقع، يتصارع أبناء لبنان لتحريك غرائز طائفية لا تزال تتحكّم بشخصياته الكرتونية.
لن يأتي الربيع اللبناني دون ربيع سوري و لكنّ كيف لأبناء ما شبّه يوما بطائرالفينيق أن يعيشوا بسلام… فكلمّا فرد جناحيه، قالوا له أنّ الهواء الذي يريد أن يحلّق به ملوّث، ملوثّ بسبب غازات ناسفة تطلقها فئات “محبّة للوطن”. هكذا يكون حب الوطن في لبنان. فإن لم تكن الوطنّية شعور يعبّرعنه عبر السلاح أو العنف الطائفي لكان الربيع اللبناني قريبا.
جيسّي نصّار (Jessy Nassar) طالبة لبنانية في جامعة Sciences Po Paris، في الفرع المختصّ بمنطقة الشرق الأوسط. عاشت طوال حياتها في بيروت قبل السفر للدراسة الجامعية في فرنسا. درست لمدة سنة في اسطمبول حيث أعطت أهميّة خاصة لدراسة السياسية التّركية. تهدف الى تعميق دراساتها العلية عن الشرق الأوسط عموما” و ما يسمّى اليوم بالربيع العربي خصوصا.