بقلم جيسّي نصّار – ٢٢ تموز ٢٠١١
لقد مرّت سنوات عديدة على انتشار ظاهرة اجتماعية مسمّة قد نسمّيها- لدقّة التفسير- “السّل الاجتماعي”. غالباً ما نقول نحن اللبنانيون اننا نعيش قصة يومية كاريكاتورية. ما يضحكنا يبكينا و ما يبكينا يميتنا من الضحك. ربما هذا ما عاشه الشعب المصري طوال هذه السنوات. و لكن الهزاء و حسّ الفكاهة أدّيا الى ما لم يتصوره أحد – بروز الأمراض الجديدة التي سبّبتها الثورة-.
فالسؤال الجوهري هو الآتي : متى يصبح الدواء داء اجتماعيا؟ قد تبدو الصورة مبهمة عندما نتكلم عن “داء” يعاني منه الشعب اللبناني. الأمر سهل: أعزّاؤنا رجال السلطة يقطعون ورقة “لوتو” كل أسبوع رابحين الملايين – و يا لحظّهم-. البعض يبيع ثروته الى غير لبنانيين، البعض الآخر يشتري الأسلحة- و لا داعي للتّفسير-، أمّا المجموعات الأخرى فتفضّل التّصفيق أو التّحول، و بكل بساطة، الى ببّغاء.
و ما هي ورقة اللوتو؟ الشّعب اللبناني العزيز.
يبدو و كأنّ هذا هو السناريو المعتاد: كما في الرسوم المتحركة، هناك شرّير يمثل في حالتنا رجال السلطة، و بطل بريء لطيف من السهل التخمين أنه يمثل الشعب المسكين.
فلنعيد اذاً طرح المقدمة لاعادة تلوين حائط التصورات التي يكون فيها الشعب مظلوماً و الدولة فاسدة. هذا الافتراض الأخير يمكن أن يدعونا الى التكلم عن “الاستثنائية اللبنانية”.
بينما أثبت الواقع “الربيعي” – اذا صحّت التسمية- أن المظلوم في تونس و مصر (و الأمثلة تتعدّى بالطبع هذين البلدين) كان الشعب و الظالم المجرم هو الطاغية، لاحظنا إن ألقينا نظرة فاحصة على الواقع اللبناني ان هذا الفصل ليس سهل التطبيق لشدة تعقيد “الحالة اللبنانية”. فكيف لنل بوضع اللوم على دولة “ديمقراطية” في بلد يصوّت فيه الشعب بحرية و يتمتّع “افتراضياً” بحقوقه كمواطن؟
بعد اندلاع نار الغضب في تونس و تفشّيه في بلدان أخرى، تبيّن أن لبنان في مأزق كبير لطالما كان موجوداً فيه. المرض الاجتماعي وجد جذوره في كيان لبنان، جذعه في نظامه السياسي و أغصانه في شعبه الذي ينبت تارة أوراقا خضراء و تورة أوراق يابسة عفنة.
فلنضع جانباً الجذع و الجذور. ما يهمّنا هنا هو محاولة البحث عن هذا السّائل المسمّ الذي يحوّل الأوراق الخضراء الى أوراق يابسة. ما هو المرض الذي يعاني منه جزءا كبيراً من المجيمع اللبناني؟
عندما نلقي نظرة سريعة و سطحية على الحياة التي تعيشها بعض الطبقات الاجتماعية في لبنان، يمكن أن نخال أنفسنا في العهد الأندلسي. حياة التّرف تبدو و كأنّها تتعدّى “حب الحياة” لتصبح ظاهرة خطرة لا بل كارثة اجتماعية. من المضحك أن نستمع الى آراء السّائحين الذين يصدمون بنسبة عمليّات “التشويه” التي أصابت الأجيال كافّة، حتى تلك التي لم تبلغ سن الرشد بعد. يا لجمال الجمال و يا لحلاوة الصورة السطحية التي يعطيها هؤلاء اللبنانيون للخارج و الدّاخل أيضاً.
أما الاسوأ فهو ما يمكن أن نسمّيه “مرض التّفرنج”. بينما تعاني و تكافح نسبة متصاعدة من الغربيين لتعلّم اللغة العربيّة، ينبذ و يشوّه المجتمع اللبناني خصوصا” هذا الكنز. التّكلم بالعربيّة ليست “موضة”، أمّا الفرنسية و الانكليزيّة فهما أكثر جاذبية- طبعاً. يا ليتهم يعون أنّ الغرب يتطلّع الى العالم العربي و لغته الثريّة بالأخصّ باعجاب لا يوصف. لم يقل أحد ان اتقان عدّة لغات عائق لا بل على العكس، فقد أثبتت دراسات حديثة أنّه عامل يساعد على التطوّرالذهني. و لكن لماذا نبذ لغة لصالح لغة أخرى في وقت نبيت في حاجة ماسّة الى تحسين اتقاننا لكنز كبير يخبىء أكثر من كلمات بسيطة خالية من الصّور و الشّاعرية.
هل هو السّل الاجتماعي يتفشّى و يمدّ جذوره الى كامل السطح بينما تحاول الطبقات الجوفية مقاومته. لبنان يتعدّى تلك القشور المتفتّتة. فهو متنوّع مثل تضاريسه. و لكن هل تساءلنا لماذا تغرق هذه القشرة في أرض من المظاهر و التّزييف، في وقت يسهر إخواننا العرب على وضع أسس لنظام حرّ سيّد مستقلّ (و يا لشبه هذه الكلمات بالشّعار الذي لطالما عرّف لبنان) ينبذ الطغيان، الشمولية و الاجرام الجماعي؟ نتساءل أيضاً اذا كان هذا التمسك بالقشور من أجل نسيان واقع سياسي أليم و مضحك في الآن نفسه. سقط الطّاغية في تونس و مصر – على أمل أن “يرحل” في الوطن المجاور و في البلدان الصحراويّة- و ان لم يسقط “النظلم السياسي” وراءهما، فقد سقط رأس النظام بينما لا يزال “طغاتنا” (مع الـتأكيد هنا على جمع الكامة) جالسين مرتاحين على كرسيهم. و لا بدّ من التّشديد على قصيدة حب دامت أكثر من ثلاثين عاماً بين كرسي عجوز و بعض “ممثلي الوطن”.
تبقى هذه الاستنتاجات مجرّد آراء نابعة من امتصاص تفاصيل الحياة اليومية. و يبقى السؤال بسيطاً: أليس سبب هذا المرض الاجتماعي معاناة دامت أكثر من ثلاثين عاما”، أي محاولة الهروب من واقع أقلّ “جمالا”؟ و المشكلة هي أنّ التكلّم عن “ذلك المرض” لا يزال محرّماً و منسيّاً من قبل المناهج الدّراسية.
و يعيد جدول الأمراض نفسه مرار و تكرار…
جيسّي نصّار (Jessy Nassar) طالبة لبنانية في جامعة Sciences Po Paris، في الفرع المختصّ بمنطقة الشرق الأوسط. عاشت طوال حياتها في بيروت قبل السفر للدراسة الجامعية. تنتمي الى حزب “اللاحزبية في لبنان” على أمل أن يتغير يوما” ما الواقع السياسي في وطنها…